كنت قبل ايام في احدى البلاد العربية المترامية الاطراف، و التي تنعم بمناخ معتدل و متنوع في اشكاله من
منطقة إلى اخرى، دون ان يكون لذلك البلد الكثير من احتياطي النفط او اي مصادر للثروة السريعة الاخرى. كنت بالتحديد باقصى اطراف ذلك البلد و كنت، انا و رفيقتي انذاك، اتجه نحو العاصمة الموجودة في الطرف الاقصى المقابل للطرف الذي كنا فيه، فوقفنا ننتظر الحافلة التي ستقلنا خلال الرحلة التي تطول بضعة ساعات. و يبذل شعب ذلك البلد قصارى جهدهم كي يحيوا حياة صالحة تتماشى مع ارثهم، و لا يبالون كثيراً إلى التحولات من حولهم. فهم، و برغم قدرتهم على استعمال التقنية الحديثة، و سكنهم في بيوت كبيرة و مكيفة، يعيشون بتناغم مع تقاليد ثقافة تم اشتقاقها عن ما هو، ربما، اخلص نموذج للبداوة يعرفه التاريخ و يمكن لاي زائر ان يلمسه.
كنت قد رايت في كل زياراتي السابقة إلى ذلك البلد اثار و اصحة للعادات و الثقافة العربية الاصيلة و المحتشمة: فلا يسمح الرجال للنساء ان تحمل حقائب ثقيلة في الشارع، و تفرض عليهم شهامتهم غير المرئية صرامة في التعامل مع المظاهر غير اللائقة. كما اتذكر كيف ان قبل سنوات قليلة مضت، ذهبت إلى منزل احد الاقارب الساكن في هذا البلد لاجد ان سكان الحي الذي يسكن فيه في العاصمة قد خرجوا بحثاً عن ابنة احدى الاسر القاطنة هناك التي اختفت قبل دقائق، بحثاُ على الاقدام و بالسيارات و حتى ان احد الاسر طوعت كلبها الحراسي، قبل ان تصل الشرطة. مثل هذه التصرفات تبرهن كيف ان تشبثهم بقناعة جادة بما هو صالح، ينير لهم الطريق في ظروف قد حيرت تعقيداتها مجتمعات اخرى اكثر ثراء و اكثر تقنية. و لكن الحدث الذي شاهدناه في ذلك اليوم جعلني اتساءل : ماذا حل بالنشامة المعهودة؟
جلسنا، انا و رفيقتي، على دكة موقف الحافلة. كان ملحوظاً في هذا البلد العربي ان نجد في محل واحد صورة تعبر عن كل شرائح البلد الاقتصادية، فكان هناك الشباب ممن ذهبوا إلى المنتجع لقضاء عطلة اسبوعية، و كان عدم تعودهم على ركوب وسائل النقل العامة واضحاً على وجوهم، بينما تجد الكثير من الاخرين من راكبي الباص رضاءهم التام عن وضع المركبة التي ستنقلهم، و هي مكيفة و مرفهة قياساً على وسائل النقل العامة في الوطن العربي. و بينما كان بعض الركاب يرى في سعر تعرفة الرحلة مبلغاً بسيطاً و سخي، كان بعضهم الاخر يقارن هذا المبلغ بدخله اليومي، و هو مبلغ قد يعتبر محرزاً مقارنةً مع متوسط الدخل للفرد في بلدنا هذا. و مع ذلك، لم تكن هناك سمات للحرمان باينة على وجوههم، ربما لانهم عائدون من اجازات استحقوها، او لانهم عائدون إلى بيوتهم محملين بمكاسب عملهم في منتجعات هي مقصد الكثير من سواح العالم.
في هذه الاثناء، دخل رجل طالق شعر ذقنه دون ان تكون له لحية، و كان يدخن سيجارة بخلاف تعليمات . اللافتات الواضحة في كل انحاء قاعة الانتظار، و امتنع عن مناشدته اي من الموظفين، دون ان يحترموه. كان هذا الرجل ماسكاً بيد امرأة اسيوية قصيرة القامة، ترتدي ثياب مزرية لا تصلح بان تكون ثياب عمل. كانت تنوح بشيء يقترب من البكاء، بينما لم ينفك الرجل عن سحبها من معصمها بطريقة يصعب علي التعبير عن الاهانة الموجودة فيها. سرعان ما بداء الاخرون يتهامسون بين بعضهم البعض، ((هي لا تريد ان تذهب)) و ((تخشى ما ينتظرها على الجانب الاخر حين تنزل عن الباص)). و همست صديقتي غير المتقنة للغة العربية و((هل هو عشيقها ربما؟)) فكانت الاجابة على هذا السؤال سهلة: لا اعتقد ذلك، و دارت تلك المرأة الاسيوية ذات الملامح الحزينة و الملابس الرديئة بوجها على الجالسين بقاعة الانتظار، تتوسل شفقة الجالسين. .
لم تنجح المرأة في توسلها. صمت الجالسون و كنت صامتاً إلى جانبهم، لم يحرك احدنا ساكناً لمساعدة انسان قد طلب منا النجدة بالوسيلة الوحيدة التي استطاع منها، و لم نفعل شيء. استرد الرجل طليق شعر ، ذقنه مبلغ التذكرة، و بدأت الامرأة الاسيوية تتالم من قبضته المتحكمة على معصمها، دون ان يلتفت اليها موظفو بيع التذاكر، مجرد معاملة مقايضة بسيطة، سواء ان قال احدهم، بعد مغادرة الرجل و الاسيوية التي يصطحبها عنوة عن قاعة الانتظار ((كنت شاكك بهذا الموضوع من زمان)). هذا و حسب.
و هنا ادركت و ايقنت ان ثمة تغييرات حقيقية قد اثرت في مجتمعنا. فالشعب الذي كان يعرف عنه الشهامة الفروسية قد وقف محايداً امام منظر من الرق المستحدث و الاتجار بالبشر. و الشعب الذي كان يقف مستعداً دوماً للدفاع عن اعراض و شرف و كرامة الاخرين قبل ان يدافعوا عن انفسهم، قد اعلن استسلامه، و لو في هذه المعركة المحدودة. صحيح ان وجود اعداد كبيرة من العمالة الاسيوية الوافدة اتى على حساب العمال العرب و نقاباتهم، و لكن لا احد يحمل الافراد العابرين للبحار المسؤولية عن ذلك. صحيح اننا لم يعلم احدنا ما ستؤول اليه الامور اذ حاول احدنا التدخل، و لكن كان بالامكان ان نجتمع على الحق و ان ندحض عملاً باطلاً. ان بقينا نخرس امام الاتجار بالبشر، غرباء كانوا علينا ام لا، فاننا قد فشلنا في الامر بالمعروف و النهي عن المنكر، بالمعنى الحقيقي لهذا المصطلح--لا اقصد هنا كف النساء عن قيادة السيارات او منع رجال الاطفاء من دخول مدرسة للفتيات و هي تحترق و تحرق معها التلميذات. .
و اكون انا اول المعترفين بانني اخفقت في واجبي اثناء الحادثة التي رويتها انفاً، و لكن كتبت هذه الاسطر لانني لا استطيع ان اتوقف عن مساءلة نفسي: هل بقي لنا اية قيم؟
No comments:
Post a Comment