في الذكرى الثانية لغياب الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش (9 آب 2008)، تستعيد هذه المقالة أحد الأسئلة الكبرى التي طرحتها التجربة الدرويشية على الأدب الفلسطيني المعاصر: هل الهوية معطى جاهز، أم أنها رحلة الذات إلى العلاقة بالأرض والكلمة؟ وبهذا المعنى يصير الشعر أرض صراع بشأن الحكاية، وتصير الذات مرايا هذا الصراع.
الهوية في أربع قصائد لدرويش لا تلخص الأبعاد المتعددة لتجربة الشاعر، فأسئلة الهوية مركزية في مجمل نتاجه، لكن المقالة تتوقف طويلاً عند البدايات لما تحمله من دلالات تاريخية تضيء المسار الثقافي الفلسطيني المعاصر، وهي بذلك ليست أكثر من مقدمة تفتح باب النقاش.لم يكتب محمود درويش شعارات، وإنما استعارات، لكن المسافة بين الشعار والاستعارة كانت ضيقة في بعض الأحيان، وأثارت سوء تفاهم كبيرا في أحيان أُخرى، وخصوصاً حين تصدى الشاعر لمسألة الهوية.
ولعل قصيدة "عاشق من فلسطين" (1966)، هي الأكثر تعبيراً عن أسئلة الهوية الوطنية، لأنها في إصرارها على استعادة الاسم الفلسطيني، قامت بصوغه انطلاقاً من العلاقة الثلاثية بين الأرض والتاريخ واللغة. غير أن قصيدة "بطاقة هوية"، التي شاعت بعنوان مأخوذ من سطرها الشعري الأول: "سجل أنا عربي"، احتلت الوجدانين الفلسطيني والعربي فترة طويلة من الزمن، وصارت أشبه بنشيد جماعي. إن قسوة الشاعر على هذه القصيدة، لا تتفوق عليها إلاّ قسوته على قصيدة أُخرى، صارت، في سنة 1988، نشيد الانتفاضة الأولى. فبينما أصر الشاعر على رفض قراءة قصيدة "بطاقة هوية" في أمسياته بعد خروجه من فلسطين، فإنه رفض نشر قصيدة "عابرون في كلام عابر" في أي من دواوينه، واكتفى بنشرها في كتاب حمل عنوان القصيدة، وصدر عن منشورات "توبقال" في المغرب (1991)، وضم مختارات من مقالاته النثرية في مجلة "اليوم السابع"، التي كانت تصدر في باريس.
وكان الشاعر أعاد كتابة بطاقة هوية شعرية جماعية، في قصيدة "على هذه الأرض"، المنشورة في ديوانه "ورد أقل" (1986)، وقد جاءت هذه القصيدة كجزء من النضج الذي صاحب تجربة الشاعر الباريسية، وكانت إعلاناً واضحاً أن الشاعر قرر أن يقطع مع طفولته الشعرية، ويذهب من الهوية الوطنية الضيقة إلى هوية كونية جامعة. غير أن الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي أتت بعد سلسلة المآسي التي أعقبت حصار بيروت وسقوطها، ومذبحة شاتيلا وصبرا، أعادت الشاعر إلى سؤال الهوية، ففي حين حاول في قصائد "بطاقة هوية" و"عاشق من فلسطين" و"على هذه الأرض" أن يصوغ الهوية الفلسطينية من داخلها، إذا به في قصيدة "عابرون"، يصوغ الهوية من خلال قراءته للآخر الإسرائيلي.
والواقع الذي فات كثيرا من القراءات النقدية للنتاج الدرويشي، هو أن شاعر الجيل كان الأكثر عمقاً في قراءته للآخر الإسرائيلي. وأنا هنا لا أحيل إلى البعد التراجيدي في شخصية ريتا فحسب، بل إلى استعانة الشاعر بمثنى امرئ القيس أيضاً، كي يصل إلى انقسام الأنا وتشظياتها، جاعلاً من قراءة الآخر أحد أبواب اكتشاف الذات، وأحد المداخل لرسم وجه الضحية الفلسطينية.
تنطلق مقالتي من افتراض أن قصائد الهوية الأربع، التي كُتبت في مراحل متعددة، تشكل وحدة عضوية في البحث عن معنى الهوية الفلسطينية، ومعنى أن يكون الشاعر كاتب الوجه الآخر للملحمة، وصوت المهزومين الذين مُنعوا من الكلام، لأن ثقافة المنتصر الإسرائيلي افترضت أن ألسنتهم قُطعت، أو أن وجودهم لم يكن إلاّ ظلالاً امّحَت، وأطلالاً دُرست.
أعرف أن الكلام على درويش كشاعر ساهم في صوغ الهوية الفلسطينية ربما يشكل اليوم خروجاً على أيديولوجيا سائدة مستوحاة من افتراضات ما بعد الحداثة، تؤكد الذات والتجربة الخاصة، وتبعد الأدب والشعر عن الهموم العامة، لكني لا أستطيع إلاّ أن أرى ما أراده الشاعر، أو أن أفصل الشعر الفلسطيني الحديث، وخصوصاً في مرحلته التأسيسية، عن مشروع استعادة الاسم الفلسطيني الذي حاولت إسرائيل محوه، ليس عبر التطهير العرقي فحسب، بل عبر محو علاقة الاسم بالمسمى، وتزوير الواقع أيضاً، من أجل خلق فراغ يستند إلى تاريخ وهمي استمر ألفي سنة! لقد وجدت الأسطورة الصهيونية من يحولها إلى واقع بقوة السلاح، فلم يبق أمام الضحية سوى أن تحول مأساتها إلى الأسطورة، تمهيداً لإعادة غرسها في الوعي والواقع.
كونية شعر درويش آتية من قدرته على تحويل التجربة المعيشة إلى لغة تروي حكاية جميع المضطهدين، وكذلك من الفرادة التي تصنعها موسيقى المعاني، وقد صارت تجربة تذهب إلى عمق الموت، كي تستكشف التجربة الإنسانية في مختلف أبعادها.
إن قراءة متأنية لبدايات التجربة تحيلنا إلى أسئلتها الأولى، وهي أسئلة العلاقة بين الهوية والتاريخ. مَن هو الفلسطيني بعدما صودرت الأرض وامّحى الاسم؟ وكيف تشكلت التجربة في بلاد فقدت أغلبية أفراد شعبها؟ وكيف استعاد الشعب لغته وأرضه، على الرغم من الشتات وبسببه أيضاً؟
وعى محمود درويش، منذ البداية، أن أرض الواقع هي أرض اللغة، فرسم قصيدته كي يستعيد بها الأرض، لا لأن الأرض "تورث كاللغة" فقط، بل لأن الأرض واللغة صارتا اسماً سرياً لفلسطين أيضاً.
وحين اكتملت تجربته ونضجت، وكبر الشعر في الشاعر، صرخ، مستغيثاً بالموت، بأنه "لا يريد لهذي القصيدة أن تنتهي". مات الشاعر لأن القصيدة لا تنتهي، وترك لنا ليس متعة القراءة فحسب، بل عبء التأويل أيضاً، في زمن العتمة حيث صارت البديهيات عرضة لامتحان الجدارة.
كان غسان كنفاني أول من التقط إشارات الشعر الفلسطيني في الأرض المحتلة، وأول من رأى في التجربة الآتية من خلف الأسوار الإسرائيلية علامة ضوء تصل ما انقطع، وترسم ملامح الهوية الفلسطينية في أبعادها المتعددة. والغريب أن سعيد س. بطل رواية كنفاني "عائد إلى حيفا" لم يلتق سعيد المتشائل على سفح جبل الكرمل. عاد سعيد س. إلى مدينته ليكتشف أنه لن يستطيع استعادة ابنه الضائع خلدون إلاّ إذا التحق ابنه الباقي خالد بالفدائيين. أمّا سعيد المتشائل فكان عليه أن يلتقي يُعاد الثانية عند خروجه من السجن، كي يفهم سر المغارة التي لجأت إليها الطنطورية وابنها/ابنه ولاء، وضرورة أن تستأنف الهوية الفلسطينية مسارها الطبيعي في الوطن والمنافي بصفتها هوية الضحية المقاومة.
لقد استطاع محمود درويش أن يوحد التجربتين، فشاعر المنافي الأربعة: الجليل، وبيروت، وباريس، وعمّان ــ رام الله، جعل من قصيدته أرض اللقاء بين روايتين، كي تكتمل الحكاية ويتم تجاوزها في آن واحد.
الهوية العربية
في سنة 1964، صدر في الجليل ديوان شعري بعنوان "أوراق الزيتون"، وهو الديوان الشعري الثاني بعد "عصافير بلا أجنحة"، لشاعر شاب في الثالثة والعشرين يدعى محمود درويش. كان الشاعر عضواً في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، ويعمل صحافياً في جريدة "الاتحاد"، التي يترأس تحريرها إميل حبيبي.
لا شيء في الديوان المشبع برومانسية واقعية، سوى أنه كان يبشر بولادة شاعر جديد، ويشير إلى التأثر بالتيارات الغالبة في الشعر الرومانسي العربي، وإلى بصمات نادرة تركتها نبرة راشد حسين.
قصيدة واحدة في الديوان كانت كفيلة بتحويل الشاعر إلى اسم شعبي كبير في فلسطين المحتلة والعالم العربي، وهي بعنوان "بطاقة هوية". وإذا كان الأثر السياسي للقصيدة مفهوماً في الداخل، فإن رواجها العربي كان، على الأرجح، وليد سوء فهم كبير.
القصيدة بسيطة ومباشرة، تنقل الألم فجاً كأنها صرخة، وهذا، في الأغلب، ما دفع محمود درويش إلى رفضها كإطار لصورته كشاعر. واللافت أن الشاعر، عندما أعاد نشر دواوينه في بيروت، بعد خروجه من الأرض المحتلة، قام بحذف السطر الأخير من هذا المقطع من القصيدة:
أنا من قرية عزلاء منسية
شوارعها بلا أسماء
وكل رجالها في الحقل والمحجر
يحبون الشيوعية.
حذف هذا السطر الأخير جاء بعد خروج الشاعر من فلسطين وانسحابه من الحزب الشيوعي، من دون أي تنكر لماضيه، غير أن هذا السطر بالذات، على الرغم من مباشرته، يحمل دلالة مهمة على معنى الهوية الفلسطينية الجديدة التي كانت في طور التأسيس.
إن الهوية التي صنعتها القصيدة هي هوية فلاح فلسطيني لاجئ في أرضه. شعره أسود وعيناه بنيتان، يعتمر كوفية، ويعمل حجّاراً بعد مصادرة أرضه. ينتمي إلى الفقراء لا إلى السادة، وهو عربي، جذوره في الأرض، ويحذّر المحتل من جوعه وغضبه.
بساطة تقطع مع اللغة القومية البطولية التي كانت سائدة في العالم العربي، وهوية مزروعة في الأرض تحمل بعداً طبقياً واضحاً، وانتماء سياسياً لا التباس فيه.
وهنا تستوقفنا ولادة الحركة الشعرية الفلسطينية في كنف الحزب الشيوعي، وخصوصاً وسط المراجعات التاريخية المتعددة لدور الحركة الشيوعية في الحركة الوطنية الفلسطينية في زمن النكبة. غير أن ما تجدر الإشارة إليه، هو دلالة تحول صحيفتَي الحزب الشيوعي، "الاتحاد" و"الجديد"، إلى المنبر شبه الوحيد للأدب الفلسطيني. والمسألة هنا تتعدى الحصانة النسبية التي تمتع بها الشيوعيون، والتي تركت لهم هامشاً من الحرية، كي تطاول مسألة جوهرية تتعلق بشرط ولادة الهوية الفلسطينية بعد النكبة الكبرى في سنة 1948. فالحركة الصهيونية لم تكتف بالاستيلاء على الأرض، بل استولت على اللغة أيضاً، ونجحت، ولا سيما بعد المحرقة النازية، في تكريس صورتها كوارث للضحية اليهودية، حاجبة بذلك الجريمة التي ارتكبتها في حق الفلسطينيين، وفارضة لغة المنتصر بصفتها لغة الضحية أيضاً.
ولم يكن في وسع الثقافة الفلسطينية أن تولد من جديد من دون لغة كونية، وهذا ما قدمه الانتماء الماركسي، لأنه سمح بوضع الحكاية الفلسطينية خارج سياق الحجاب الذي فرضته عليها اللغة السائدة. فكانت الأممية شكلاً من أشكال كسر الصمت، وكان الانتماء إلى تراث "المعذبين في الأرض"، وسيلة الضحايا لرواية حكاياتهم المضادة للسردية الصهيونية المهيمنة.
واللافت هو اللقاء الذي صنعه الأدب الفلسطيني بين البعدين الماركسي والقومي، فتجربة الشيوعيين في فلسطين المحتلة لن تكتمل عناصرها الفكرية إلاّ بعد انشقاق الحزب في سنة 1965، وتحوله إلى ما يشبه الوعاء القومي الأممي بقيادة فيلنر ـ توما ـ حبيبي. كما أن الحركة القومية التي أنتجت تجربة "أبناء البلد" في الداخل، ستشهد في المنافي تحولات جذرية قادتها إلى اعتناق الماركسية في الجبهتين الشعبية والديموقراطية، وجعلت من "أم سعد" لكنفاني، كتابة جديدة لـ "أم" مكسيم غوركي.
سوء الفهم الذي صنعته قصيدة درويش في العالم العربي، ناجم عن كلمة "عربي" في سطرها الأول، إذ فُهمت القصيدة على أنها نشيد قومي جامع يساهم في ترميم الكبرياء القومية الجريحة بعد الهزيمة الحزيرانية.
والواقع أن كلمة "عربي"، في إطارها داخل الدولة العبرية، تحمل دلالة مضادة، وهذا ما أشار إليه المؤرخ الإسرائيلي شلومو زاند في مقدمته الرائعة لكتابه "اختراع الشعب اليهودي". فإسرائيل تفرض على مواطنيها الإشارة إلى انتمائهم الديني والقومي في بطاقة الهوية. ولأن إسرائيل قررت محو الاسم الفلسطيني، فإنها فرضت على الفلسطينيين من سكان البلد الأصليين أن تكون قوميتهم عربية. هكذا، كانت الدولة العبرية، وهذا من سخرية القدر، أول من اعترف بالقومية العربية في العالم! مثلما كانت أول من اعترف بالقومية الكتالونية أيضاً!صفة العربي في قصيدة درويش كانت حجاباً للاسم الفلسطيني، وسيقوم الشاعر بتصويب الاسم لاحقاً في ديوانه "عاشق من فلسطين" (1966). والهوية، كما رسمتها هذه القصيدة، هي هوية فلاحية في الأساس، ورؤيتها البسيطة تمحورت حول رسم العلاقة بالأرض، وهي العلاقة التي ستصبح العلامة الأولى في الأدب الفلسطيني المعاصر.
مجرد سوء فهم، يشير إلى أن معاني الشعر تتعدد بتعدد قرائه، وإلى أن اقتراح الهوية الدرويشي البسيط دخل في متاهة الهزيمة العربية، مثلما ستدخل قصيدته "عابرون في كلام عابر" في متاهات الهوية الإسرائيلية والتباساتها.
وفي مقالة نشرتها "هاربرز ماغازين" (شباط 2009) عن محمود درويش، توقف الكاتب روبين كريسويل طويلاً أمام دلالات قصيدة "سجل أنا عربي"، مشيراً إلى نقطة جديرة بالانتباه. فالقصيدة تجسيد لحوار بين الشاعر وبين محقق إسرائيلي، ومن المرجح أن يكون الحوار قد جرى باللغة العبرية، وأن تكون قصيدة الهوية العربية، ترجمة إيقاعية لكلام قيل باللغة العبرية!
مفارقة هذه الحقيقة جزء من مفارقات الشعر والأدب بوجه عام. فالشعر ترجمة للمواقف والأفكار والمشاعر من لغتها المباشرة إلى اللغة الشعرية، أي أن الكاتب هو في معنى ما مترجم، ينقل الحالة من لغتها الأولى التي ربما تكون خرساء، إلى لغة أُخرى.
هناك طبعاً، احتمال آخر، هو أن يكون المحقق الإسرائيلي يهودياً يمنياً، أو مغربياً، أو عراقياً، وهذا احتمال وارد، وخصوصاً إذا عرفنا أن الموشاف الذي بُني على أنقاض قرية الشاعر المهدمة، "البروة"، يقيم فيه يهود يمنيون. وهذا الاحتمال لا يزيل افتراض الترجمة، لكنه يعدله قليلاً. إذاً، كان على الشاعر والمحقق العمل معاً، على ترجمة الفوارق بين اللهجات إلى لغة مفهومة.
يبقى احتمال ثالث ضئيل، هو أن يكون المحقق الإسرائيلي درس في "الموساد" اللهجة الفلسطينية، وهنا، ستقع مهمة الترجمة على عاتق المحقق الإسرائيلي وحده. قلتُ إن هذا الاحتمال ضئيل، لأن تجربة ألوف الأسرى الفلسطينيين واللبنانيين مع المحققين الإسرائيليين، تشير إلى ضعف إسرائيلي فادح في اتقان لهجات سكان البلد الأصليين، ما يجعل التحقيق غرائبياً في كثير من الأحيان، ويخلق مساحات من سوء الفهم لم تتطرق إليها القصيدة الدرويشية.
غير أن الغائب عن هذا الافتراض هو الوجدان، إذ إن الحوار بين المحقق والشاعر لم يكن إلا محاولة خيالية لتلخيص الهوية الفلسطينية الجديدة بصفتها هوية ضحية، وكان الشاعر ترجمان الوجدان.بهذا المعنى، فإن قصيدة "بطاقة هوية"، كانت ترجمة ناقصة للوجدان الشعبي في فلسطين المحتلة، ولن تكتمل هذه الترجمة إلاّ حين يحتل الاسم الفلسطيني المساحة كلها في قصيدة "عاشق من فلسطين".
الهوية الفلسطينية
جاءت قصيدة "عاشق من فلسطين" لتفتح معركة استعادة الاسم الفلسطيني، وهنا تكمن أهميتها في تجربة الأدب الفلسطيني الآتي من الداخل، وفي التجربتين السياسية والثقافية، حين كان الوعي الفلسطيني الجديد يتشكل في إطار المقاومة المسلحة التي انطلقت رصاصاتها الأولى في سنة 1965.
نعيد قراءة القصيدة اليوم، لنكتشف أن درويش حافظ على الهوية الطبقية لبطله الفلسطيني، والتي نجدها في "بطاقة هوية"، لكنه أحدث تغييراً نوعياً عليها مستبدلاً الرجل بالمرأة. ويمكنني أن أقول إننا نعثر هنا، على الملامح الأولى لتماهي الأرض بالمرأة والمرأة بالوطن، وهي الملامح نفسها التي سبق أن أشار إليها غسان كنفاني في رواية "رجال في الشمس" (1965).
أنوثة الوطن والأرض، التي نعثر عليها في الأدبين العربي والعالمي، كاستعارة رمزية، تتحول هنا إلى مبنى فلاحي سيسحب نفسه على مجمل التجربة الدرويشية، ويصل إلى ذروته في ديوان: "لماذا تركت الحصان وحيداً" (1995)، الذي يكتب فيه الشاعر سيرته الشخصية من خلال حكاية النكبة.
فلسطين الأرض ــ المرأة، هي عنوان التماهي الكبير الأول الذي يصوغه الشاعر:
وأنسى، بعد حين، في لقاء العين بالعين
بأنّا مرة كنّا، وراء الباب اثنين.
ومن أجل أن يكتمل التماهي، يبدأ الشاعر بتصنيف حبيبته ــ وطنه، فهي مسافرة، أي لاجئة: "لماذا تُسحب البيارة الخضراءْ/إلى سجن إلى منفى إلى ميناءْ".
وهي راعية وفلاحة وخادمة وقتيلة، أي أنها تحمل سمات اللاجئين في أرضهم، واللاجئين المطرودين من أرضهم. وهي أولاً وأخيراً الأرض: "وفية كالقمح"، و"نخلة" و"حديقة عذراء".
أمّا التماهي الكبير الثاني فهو الاسم، إذ يقوم الشاعر بتكرار الاسم الفلسطيني سبع مرات في مقطع شعري واحد:
فلسطينية العينين والوشمِ
فلسطينية الاسمِ
فلسطينية الأحلام والهمِّ
فلسطينية المنديل والقدمين والجسمِ
فلسطينية الكلمات والصمتِ
فلسطينية الصوتِ
فلسطينية الميلاد والموتِ.
هذا الإصرار على الاسم يتشكل كصدى لقسم الشاعر:
وأقسم:
من رموش العين سوف أخيط منديلاً
وأنقش فوقه شعراً لعينيكِ
واسماً حين أسقيهِ فؤاداً ذاب ترتيلاً
يمدّ عرائش الأيكِ
سأكتب جملةً أغلى من الشهداء والقبلِ
فلسطينية كانت ولم تزلِ.
الاسم هو أرض الصراع بشأن الهوية، فالمرأة ــ الأرض ــ الوطن، لا تستعاد إلاّ إذا استطاع الشاعر أن يسترجع الاسم الذي يريد الاحتلال محوه. والاسم الفلسطيني المستعاد هو عنوان معركة الوجود الفلسطيني الذي أُخفي تحت ركام النكبة ومآسيها، وهذا للأسف، ما يتناساه قادة زمن الذاكرة المفقودة في الحياة السياسية الفلسطينية. ومعركة الاسم لم تحسم عبر استعادته الرمزية في الأدب والسياسة، مثلما نظن، لأن هذه المعركة تدور اليوم في كل حي وشارع في القدس، وفي بقية مدن فلسطين وقراها، من النهر إلى البحر.
الهوية في القاموس الدرويشي لا تزال تحمل السمات الفكرية والانتماء الطبقي للهوية مثلما عبّرت عنهما قصيدة "بطاقة هوية"، لكنها تحمل جديدين: الأول، هو إخراج الاسم الفلسطيني من الركام، وبناؤه في صورة أنثوية؛ الثاني، هو الإشارة التاريخية إلى خيول الروم والصليبيين:
وباسمك صحتُ في الوديانْ:
خيول الروم!... أعرفها
وإن يتبدل الميدانْ.
وهي إشارة تتجاوز الذاكرة القومية، لأنها ستكون ميداناً لتجليات شعرية متعددة في دواوين الشاعر اللاحقة، تمتد من المغول إلى الهنود الحمر إلى سقوط غرناطة...
الهوية الكونية
في سنة 1986، أي بعد ربع قرن تقريباً على نشر قصيدة الهوية، أعاد درويش رسم هويته الفلسطينية في قصيدة "على هذه الأرض"، من ديوان "ورد أقل". وهذا الديوان يشكل، في رأيي، انعطافة درويش الثالثة الكبرى، بعد قصائده المبكرة في الجليل، ومحاولاته التجريبية في بيروت. فهذا الديوان الذي كُتب في المنفى الباريسي كان منعطف الخلاصات الشعرية، وباب الذات التي صارت الوجه الآخر للمأساة، وليس محاولة تعبير عنها.
لقد قامت "بطاقة هوية" بإخفاء الاسم الفلسطيني تحت الاسم العربي، لكن اسم فلسطين سينبثق في قصيدة "عاشق من فلسطين"، كي تكتمل الهوية حين يتوحد الشاعر بالمرأة، وتتوحد المرأة بالأرض. وقد اختتمت قصيدة "على هذه الأرض" سؤال الهوية بنبرة تجريدية حررت السؤال من عناصره الآنية، فصار سؤال الهوية الفلسطينية موجهاً إلى العالم، لأن فلسطين اليوم تختزن بعداً أخلاقياً يتحدى الضمير الكوني.كان محمود درويش يكتفي بالابتسام حين نمازحه عن شغفه وشغف جمهوره بقصيدة "على هذه الأرض"، قائلين إنها "سجل أنا عربي"، لكن بصيغة جديدة. والواقع أننا لم نكن نمزح، فهذه القصيدة التي تحولت نشيداً فلسطينياً، من دون أن تحمل الالتباسات العربية للقصيدة القديمة، كانت صوغاً إيقاعياً مدهشاً لمعنى الهوية الفلسطينية في إطارها الكوني:
على هذه الأرض ما يستحقُّ الحياة: تَردُّدُ إبريلَ، رائحةُ الخبز في الفجر، تعويذةُ امرأةٍ للرجالِ، كتاباتُ أَسْخِيْلِيوس، أولُ الحبِ، عُشبٌ على حجرٍ، أمَّهاتٌ يَقِفْنَ على خيط نايٍ، وخوف الغزاة من الذكرياتْ.
تركز القصيدة على ثلاث مسائل هي: خوف الغزاة من الذكريات؛ خوف الطغاة من الأغنيات؛ فلسطين بصفتها سيدة الأرض. وبين هذه المسائل الثلاث يمر شريط يضم الطبيعة إلى الأدب إلى الشمس إلى أول الحب إلى السجن إلى الغيم إلى المرأة "التي تدخل الأربعين بكامل مشمشها". لوحة تجريدية تتحرر من الآني والمباشر، وتدخل في حوار انسيابي مع الطبيعة والكون، كي تنتهي إلى "سيدة الأرض، أم البدايات أم النهايات. كانت تسمى فلسطين، صارت تسمى فلسطين."
النثر يحل في الشعر، والشعر يصير إيقاعاً مائياً للروح، والاستعارات تنطفئ ليتحول المجاز تراكماً للوقائع، وتوليفاً جديداً للكائنات.لقد أذابت هذه القصيدة الهوية الفلسطينية في التماهي الأكبر مع الوجود. ذابت فلسطين في ماء بحر المتقارب، الذي ينثر الشعر ويموسق النثر، وصارت القافية أشبه بامتداد في الألف التي تلف التاء الساكنة، جاعلة من النهاية بداية.
في هذه القصيدة الصغيرة، وصل الشاعر إلى فلسطينه التي تتسع لكل الهويات، وتعطي الأرض معناها، والحياة احتمالاتها. وكما في قصيدتَي الهوية السابقتين، تتكئ هذه القصيدة على التكرار الذي يخلق إيقاعه الخاص في داخل الإيقاع، ويعيد تنظيم البحر الخليلي على إيقاع ذاكرة الألم.
إن التجريد الشعري المرسوم بالفحم، والمظلل باندراج الواقع في المتخيل، يحرر فلسطين من الحشو، ويصل بها إلى مصاف الشعر المجرد، ويقيم نصباً للكلمة التي صارت اسماً فلسطينياً عصياً على المحو والنسيان.
هوية الآخر
مع "على هذه الأرض"، يكون الشاعر قد أنجز مقاربته إلى الهوية الفلسطينية: حددها بالتحدي، ثم استعاد الاسم، ورسمها بالتجريد الشعري جاعلاً منها أسطورة كونية. ولذا، جاءت قصيدة "عابرون في كلام عابر"، التي نشرت أولاً في 25 كانون الثاني 1988، في مجلة "اليوم السابع" الصادرة في باريس، كمفاجأة تستعيد النبرة الشعرية المباشرة والصاخبة، كأنها عودة إلى الماضي الشعري الذي تخلى عنه الشاعر.مفاجأة القصيدة كانت مرآة لمفاجأة الشعب الفلسطيني بنفسه مع الانتفاضة الأولى التي أُطلق عليها اسم انتفاضة أطفال الحجارة. وقد عبّر عن هذه المفاجأة كتيّب صغير لمحمد علي طه صدر عن منشورات الأسوار في عكا، بعنوان "الإيقاع الشعري للانتفاضة في قصيدتين: (رسالة إلى غزاة لا يقرأون) لسميح القاسم، و(عابرون في كلام عابر) لمحمود درويش".
والقصيدة لا تضيف جديداً إلى ملامح الهوية التي سبق أن رسمها درويش في قصائده السابقة، لكن جديدها كان الاستقبال الإسرائيلي لها، والذي أطلق عليه الشاعر اسم "هستيريا القصيدة".
أمّا الاستقبال الفلسطيني والعربي للقصيدة فكان احتفالياً، وهذا ما كان متوقعاً، لأن الانتفاضة الأولى بددت اليأس العربي العام، وخصوصاً بعد حرب المخيمات في لبنان، التي استكملت ما عجزت مذبحة شاتيلا وصبرا عن تحقيقه.
لا جديد في القصيدة فلسطينياً سوى تأكيدها صورة الضحية في مواجهة الجلاد:
منكم السيفُ ومنا دمنا
منكم الفولاذ والنارُ ومنا لحمُنا
منكم دبابة أُخرى ومنا حجرُ
منكم قنبلة الغاز ومنا المطرُ.
لقد سبق أن رسم درويش صورة الضحية في قصيدتيه "بطاقة هوية" و"عاشق من فلسطين"، ولذا، لا يضيف الشاعر هنا، سوى صرخته بضرورة خروج المحتل من الأرض الفلسطينية.
غير أن "هستيريا القصيدة" أصابت الثقافة والسياسة في إسرائيل بشكل غير متوقع، فقد نُشرت أربع ترجمات مختلفة للقصيدة، وشُنت عليها حملة مكارثية اشترك فيها اليمين واليسار، من حاييم غوري إلى عاموس كينان، ووصلت إلى ذروتها حين وقف رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك، يتسحاق شمير، على منبر الكنيست في 28 نيسان 1988، ملوحاً بالقصيدة ومعلناً: "التعبير الدقيق عن الأهداف التي تبحث عنها عصابات القتلة المنضوين تحت واجهة منظمة التحرير الفلسطينية قدمه أحد شعرائهم، محمود درويش، وزير الثقافة المزعوم داخل منظمة التحرير، والذي نتساءل بأية صفة منح لنفسه سمعة المعتدل؟ وكان في استطاعتي أن أقرأ هذه القصيدة أمام البرلمان، لكنني لا أريد أن أمنحها شرف الوجود في وثائق الكنيست".
هذه الهستيريا وصفها كتاب صغير صدر عن منشورات "مينوي" في باريس في سنة 1988، وضمّ قصيدة درويش بالإضافة إلى مقالتين للشاعر هما: "نعم بلادنا هي بلادنا" و"هستيريا القصيدة"، كما تضمن مقالتين لمتتياهو بيليد وأوري أفنيري، علاوة على مقدمة ممتازة كتبتها السينمائية الإسرائيلية ــ الفرنسية سيمون بيتون توثق فيها تفصيلات تلك الهستيريا المخزية.
ووصلت الحملة إلى ذروتها في الدعوى القضائية التي رُفعت في باريس ضد محمود درويش بتهمة "إثارة الكراهية العنصرية ضد اليهود"، وذلك بعد نشره مقالة في صحيفة "لوموند" بعنوان: "سؤال إلى الضمير اليهودي" قال فيها: "لقد آن الأوان لنصرخ من دون خشية من تهمة أو ابتزاز أن شرف يهود العالم كلهم ملطخ بوحل الاحتلال الإسرائيلي وبدم ضحاياه من الفلسطينيين، ما لم يعلنوا القطيعة مع هذا الاحتلال. عليهم وحدهم أن ينقذوا سمعتهم بمدى ما يتبرأون من الاحتلال وجرائمه، وبمدى ما يقتربون من الاعتراف بالحقيقة والحقوق الفلسطينية."
وبعدما قامت محكمة الاستئناف في باريس بتبرئة الشاعر من التهمة في 17 آذار 1991، أدلى درويش بتصريح إلى جريدة "الحياة" أشار فيه إلى أن الدعوى لها صلة بقصيدته "عابرون"، ففي هذه القصيدة ــ البيان استعاد درويش مسألة الهوية، لكنه قام في هذه المرة بالإشارة إلى هوية المحتلين، أي أنه بنى طباقاً بين واقعين متناقضين: واقع الفلاح الفلسطيني الذي يعرف أرضه ويصنع معنى العلاقة بها، وواقع المحتل الإسرائيلي الذي لا يستطيع أن يفهم معنى هذه العلاقة:
أيها المارون في الكلمات العابرةْ
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا
واسرقوا ما شئتمُ من زرقة البحر ورمل الذاكرهْ
وخذوا ما شئتمُ من صُورٍ كي تعرفوا
أنكم لن تعرفوا
كيف يبني حجرٌ من أرضنا سقفَ السماءْ
فضحت القصيدة لعبة الضحية الكاذبة التي أتقنتها الآلة الإعلامية الإسرائيلية. فالمحتل الإسرائيلي ليس ضحية وإنما قاتل، والخرافة لا تستطيع أن تحل مكان الحقيقة التاريخية، والسلام لا يعني تنازلاً عن الوطن أو عن الحقيقة.
وعندما صرخت بهم القصيدة بأن ينصرفوا أصيبت الثقافة الإسرائيلية بالجنون، وانكشفت هشاشة المبنى الأيديولوجي الصارم الذي بنته الصهيونية طوال مئة عام، وجاء حجر طفل فلسطيني وإلى جانبه كلمة تروي سيرة الحجل كي يصير هذا البناء كله بدداً.
لقد دخلت هذه القصيدة تاريخ الوعيين الإسرائيلي والفلسطيني، وأثارت ذلك الضجيج لأنها كشفت أن الصراع الكبير يدور أيضاً وأساساً على الحكاية، وعلى تحديد هويات أبطالها. وتمحورت خلاصة الهستيريا التي اجتاحت الوسط الثقافي الإسرائيلي حول بعض تعابير القصيدة: "احملوا أسماءكم وانصرفوا"؛ "كالغبار المرّ"؛ "لا تموتوا بيننا"؛ "لا تقيموا بيننا"؛ وهذه تعابير حمّالة أوجه.
ولم يفد التصريح الذي أدلى به الشاعر إلى صحيفة "هآرتس" (نشر في كتاب سيمون بيتون، وجاء فيه أن قصده هو أرض الانتفاضة، أي الضفة الغربية وغزة)، في تبديد الذعر الذي أصاب الإنتليجنسيا الإسرائيلية التي فوجئت بأن الشاعر وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير يعتبر فلسطين كلها وطنه، مميزاً بين الوطن والدولة. ففي حوار صحافي فاجأ درويش محاوره الإسرائيلي حين أجاب عن سؤال عن الحدود، فقد سأل الصحافي الشاعر: "ونحن، ما هي حدودنا؟" فأجاب درويش: "عليكم أنتم أن تقولوا ما هي حدودكم في بلادنا، لأن جزمة الجندي المحتل لا تصلح أن تكون حدوداً كما كان يحددها الجنرال ديان. أمّا نحن فلا نسأل ما هو وطننا لأننا نعرفه تماماً، بل نسأل عن دولتنا الممكنة من أرض وطننا، ونحن لا نأخذ منكم شيئاً... نحن نأخذ من حقنا، فأن تنسحبوا مما هو حولنا إلى ما هو لنا، لا يعني أننا نأخذ منكم شيئاً، هل تفهم؟"
غير أن جوهر المسألة الجدالية يكمن في مكان آخر اسمه الصراع بشأن الحكاية. ففي هذه القصيدة استعاد درويش تحديداته للهوية الفلسطينية في إطار جديد صنعه وهج الانتفاضة الأولى، لكنه أضاف إليها تحديداً للهوية الإسرائيلية، نازعاً عنها صفة الضحية، وواضعاً إياها في إطارها الفعلي بصفتها هوية كولونيالية. وهنا ربما تكمن إحدى الإشكاليات الكبرى التي رافقت إعلان الدولة الفلسطينية الذي صاغه درويش وأعلنه عرفات في المجلس الوطني الفلسطيني في سنة 1988، والذي بُني على افتراض أن التسوية ممكنة مع إسرائيل على أساس قرارات الأمم المتحدة، وذلك على الرغم من كونها دولة كولونيالية بُنيت أساساً على قاعدة نفي الوجود الفلسطيني.
جواب درويش السياسي كان ملتبساً: الانسحاب من اللجنة التنفيذية للمنظمة مع شفيق الحوت، احتجاجاً على اتفاق أوسلو، من دون التورط في المعركة الثقافية والسياسية التي قادها إدوارد سعيد ضد الاتفاق المذكور.
غير أن جوابه الشعري كان واضحاً، وخصوصاً في قصيدته الأندلسية في ديوان "أحد عشر كوكباً" (1992)، التي يستعير فيها شخصية أبي عبد الله الصغير، كي يشير إلى الواقع الفلسطيني الراهن.
لقد أثير كثير من الأسئلة عن سبب بقاء قصيدة "عابرون" خارج أية مجموعة شعرية، وهل إن رفض الشاعر نشرها في ديوان ناجم عن ندمه على كتابتها، مثلما ادعى يوسي سريد، (معين البياري في مقالته عن افتتاح "مؤسسة محمود درويش للإبداع" في كفر ياسيف، في موقع "موقد" الإلكتروني: http://www.mauked.com/news.php id=1278168346 في 3 تموز 2010)، أم ناجم عن اعتبارها بياناً شعرياً لا قصيدة؟
الندم ليس وارداً، لأن الشاعر حوّل القصيدة قضية سجالية في الكتاب الصادر عن منشورات "توبقال" في الدار البيضاء، والذي حمل عنوان القصيدة، وضم مجموعة من المقالات السجالية التي اقتبسنا بعضها في هذه المقالة.
أمّا افتراض البيان الشعري فإنه لا يُخرج القصيدة من ديوان الشاعر، بل إنه يضيف إليه سؤال الهوية الإسرائيلية، الذي نراه واضحاً، في هذه القصيدة. واللافت أن الشاعر لم يستخدم كلمة إسرائيل أو إسرائيلي في أي من قصائده، فشاعر ريتا و"جندي يحلم بالزنابق البيضاء" (ديوان "آخر الليل" 1967)، حين اضطر إلى التحديد، استخدم كلمة "العدو"، كما في قصيدته "عندما يبتعد" من ديوان "لماذا تركت الحصان وحيداً"، وهذا نابع من موقف مبدئي يعتبر أن لا مساومة في الشعر.
ومن هنا، فإن ما بدا قسوة في تعامل درويش مع قصيدته هذه لم يكن إلاّ حيلة أسلوبية، فقد خصص لها كتاباً كاملاً، جاعلاً منها عنواناً لصراع ثقافي وفكري مع الاحتلال.
ثلاث قصائد وقصيدة رابعة كُتبت خلال ربع قرن، تلخص سؤال الهوية الفلسطينية، وتأخذه إلى بعده الإنساني المتعدد. والتدرّج في بناء الهوية يشير إلى الدور الكبير الذي أدته الثقافة في صوغ الاسم الفلسطيني وشحنه بالدلالات النضالية والإنسانية.
لقد وضع درويش سؤال الهوية في معادلة العلاقة بين "خوف الغزاة من الذكريات"، و"خوف الطغاة من الأغنيات"، أي بين الذاكرة والكلمة، وهنا تتأسس فلسطين كـ "طريق إلى البيت".
أنا من هنا، وأنا من هناكَ، ولستُ هناكَ، ولستُ هنا
سأرمي كثيراً من الوردِ قبل الوصول إلى وردةٍ في الجليل.
هذا الالتباس الشعري سيشكل مدخل درويش إلى اكتشاف المثنى، الذي سيقسم الذات نصفين، ويأخذ الشعر إلى امتلاك الحكاية، ويصل به في قصيدة "طباق" المهداة إلى ذكرى إدوارد سعيد في ديوان "كزهر اللوز أو أبعد" (2005)، إلى الهوية المتعددة التي يصنعها الإنسان:
والهويةُ؟ قلتُ
فقالَ دفاعٌ عن الذات...
إن الهوية بنتُ الولادة، لكنها
في النهاية إبداعُ صاحبها، لا
وراثةُ ماضٍ. أنا المتعددُ. في
داخلي خارجي المتجددُ... لكنني
أنتمي لسؤال الضحية، لو لم
أكن من هناك لدرَّبتُ قلبي
على أن يربّي هناك غزالَ الكنايةِ
فاحمل بلادك أنّى ذهبتَ.
رحلة الهوية الدرويشية تصل في النهاية إلى سؤال الضحية، فتصير الهوية تماهياً، وتتحول فلسطين أرضاً تلتقي فيها الكلمة بالحرية.
جريدة الأيام الفلسطينية
24- 9 - 2010
٭ سينشر (نُشر) هذا المقال في مجلة "الدراسات الفلسطينية" يوم الثلاثاء 28 أيلول الجاري.
http://www.al-ayyam.ps/znews/site/template/article.aspx?did=149692&Date=9%2F24%2F2010
No comments:
Post a Comment