كلهم يحبون فيروز، وانا ايضا احبها، من يستطيع مقاومة سحر ذلك الصوت، خشوعه، موجه، انحــــناءات الغواية الخفرة التي فيه، شعريته، وامتداده الى ما يشبه الصـــلاة؟ من يستطيع ان يكون محايدا امام المعجزة؟ خصوصا حين يصير لبنان كله، بتاريخه الحديث وجماله وحروبه مجرد تفصيل صغير في صوت امرأة؟
لم يبق من علامات لبنان سواها، سعيد عقل جرّحته الحرب، ودمرت الحداثة مقتربه الشعري المتعالي على الحياة، ميشال شيحا صار حطاماً، بعدما قضت الحرب على فكرته عن لبنان المتوسط والوسيط، توفيق يوسف عواد يبس 'رغيفه' وتفتت، عمر فاخوري نُسي، بعدما كان اديبنا الذي 'في السوق'.
كلّ رموز لبنان اصابها التصحّر، لا شيء بقي، كأن لا شيء كان. وحده جبران خليل جبران احتفظ بمكانة 'النبي'، لكنه نبي بلا مريدين، وذاكرة تتعرض للتحنيط، وحكاية مدرسية لم تعد تحمل بريق الايحاء.
هل تكفي امرأة كي تنقذ وطنا من الهلاك؟
هل تكفي ايقونة يمارس امامها المثقفون طقوس العبادة، كي تخلّص المعبد من الدمار، والمؤمنين من الخوف؟
من البعيد البرليني حيث اقيم هذا العام، تبدو صورة لبنان ممزقة وتثير الرثاء. كنت اريد ان اقول انها تثير الضحك، لكنني غيّرت رأيي، فالضحك مثلما علمّنا برغسون هو رد فعل على المفاجئ واللا متوقع، اما حين يكون كلّ شيء متوقعاً ومنتظراً، فالكلمة المناسبة هي الرثاء لا الضحك.
رثاء بلا حنين، هذه هي المفاجأة. شريط فيروز الجديد وحفلتاها في وسط بيروت، قرأت عنهما مقالات لا تحصى، لم يثيرا فيّ الحنين. وهنا المسألة. انا في الأساس ضد فكرة الحنين، حتى الحنين الى فلسطين لا يثير فيّ اية مشاعر خاصة. فالوطن الضائع لا يصنع الحنين الا كتعبير عن اليأس. فأنت تحنّ الى طفولتك لأنك لا تستطيع العودة اليها، اما اذا كانت العودة ممكنة، فأنت لا تشعر بالحنين، بل تفرح بسذاجة، او تصاب بالخوف، اما الحنين فلا. لذا عجبت من احد اصدقائي الذي اطلق على ابنته الوليدة اسم حنين. قلت لماذا لا تسميها حنان، فقال ان الحنان يختلف عن الحنين، الحنان حالة، اما الحنين فيجسد رغبة عميقة. شرحت له نظريتي عن الحنين، فقال انني مخطئ، وذكّرني بقصيدة محمود درويش 'امي' التي تبدأ بعبارة 'أحن الى خبز امي، وقهوة امي'، قال ان حنين الشاعر يعبّر عن صلة مقطوعة بالأم بسبب السجن، وهي تشير الى رغبة في استعادة الصلة والعودة الى البيت. فصمت، رغم قناعتي بأن مجرد اعلان الحنين يعني ان العلاقة انقطعت ولن تعود.
ليس هذا هو المهم.
المهم انني، ورغم كراهيتي النظرية للحنين اسقط فيه، كغيري من عباد الله. وفي كل مرة سافرت فيها، كانت طقوسي في الحنين تبدأ بعد ايام معدودة من وصولي الى البلد الأجنبي مهما كان اسمه. احن الى التبولة والقهوة التركية والكبة النيئة وفيروز. اذكر انني عندما كنت طالبا في باريس في اوائل السبعينات، وحين كان المد اليساري الفتحاوي يأخذنا الى غابات فيتنام، كان يكفي ان استمع الى فيروز تغني للبنان، الذي كان انتماؤنا العقائدي يمنعنا من حبه، حتى اشعر ببلل الحنين في عينيّ.
صالحت ما بين رفضي الفكري للحنين وممارستي العملية له، بأن افترضت بأن الحنين لا يصلح للأدب، لأنه يسقطك في الميلودراما، حتى وان كنت تمارسه في حياتك اليومية. وهنا بدأت تتبلور في ذهني فكرة ان الأدب لا يعبّر عن الواقع الا بشكل جزئي، اي كي توحي بالحقيقة في الأدب عليك ان تتعامل مع حقائق الحياة في شكل موارب، كي لا اقول عليك ان تكذب.
بعد هذا الاستطراد الطويل اعود الى تخوفي من مشاعري التي فقدت اي حنين الى وطني. هل صرت لا مباليا، ام ان العولمة قضت نهائيا على فكرة السفر، بحيث يكفي ان تقفز الى المترو كي تجد نفسك بعد دقائق في الحي التركي من المدينة، فتشتري الزيتون والمخلل والخبز العربي، وتنتشي بروائح الشرق، وتعود الى بيتك البرليني المعزول وسط الاشجار.
لا اعتقد ان سبب العولمة يكفي، بل يجب ان ابحــــث عن ســــبب آخر جفف دموعي امام صوت فيروز، وجعل مني كائنا لا حنينيا تجاه وطن صنع منه المهجريون من ادبائه وطنا لا يصلح الا للحنين.
لن احاول تبرير لا حنيني بعبارات جاهزة كأن اقول انه القرف او الاشمئزاز من حال التخبط السياسي الثقافي الذي تعيشه الطوائف اللبنانية الكريمة، او النخب اللبنانية التي وجدت نفسها في متاهة كماشات الطوائف.
فأنا كغيري من مثقفي لبنان، اتحمل قسطي من مسؤولية الفشل العام في استعادة الدولة من براثن الطوائف وحماتها الإقليميين.لذا حتى وان كان القرف ممكنا، فانه لا يصلح كتفسير، او هو بتعبير ادق، تفسير غير لائق.
اغلب الظن ان امحاء الحنين يعود الى التكرار، فأنت تعيش اليوم في لبنان ما سبق لك ان عشته منذ عشرين عاما. ترى كأنك تتذكّر وتتذكّر كأنك ترى، وهذا ما يحطّم جماليات الذاكرة ويلغي قدراتها على استحضار الحنين. اي ان ما تقدمه لنا الطوائف والهمجية الاسرائيلية والديكتاتوريات العربية، هو دائرة مقفلة من تكرار المكرر، بحيث تصلح عناوين الصحف التي صدرت منذ عشرين عاما اليوم، مثلما تصلح صحف اليوم ان ترسل الى الأرشيف حتى قبل قراءتها.
التكرار يلغي معنى الذاكرة، فأنت لا تستطيع ان تعيش اللحظة وتتذكرها في الآن نفسه، وحين لا تكون الذاكرة لا يكون الحنين، وتتهاوى نجوم 'وطن النجوم'، بحسب تعبير ايليا ابو ماضي، ولا يعود في استطاعة اي نجمة، حتى وان كان اسمها فيروز، ان تدعونا الى مائدة الحنين.
القدس العربي
2010-10-26
No comments:
Post a Comment